يعرِّف برنامج التنمية للأمم المتحدة UNDP منظمات المجتمع المدني بأنها تجمعات لاحكومية خارج نطاق الأسرة، وفيها ينتظم المشاركون لدعم المصالح العامة المشتركة.[1]
ومن الامثلة على ذلك منظمات قروية، بيئية، حقوقية، زراعية، عمالية، دينية، إتحادات ونقابات وغرف تجارية، ومنظمات ومعاهد بحث مستقلة، ووسائل إعلام غير ربحية.
وهناك بعض الفروق التعريفية والتخصصية بين منظمات المجتمع المدني والمنظمات اللاحكومية قد يطول شرحها وتفصيلها مما لايسعه المجال هنا. ولكن يمكنني إختصار بعضها بشكل مبسط لاننا سنحتاج لهذا التفصيل لاحقاً ضمن طيات هذا الكتاب.
الفرق الرئيسي بين الاثنين هو: أن منظمات المجتمع المدني هو جمعية ليست دولة أو أسرة، ولكنها جزء إيجابي وفعال ضمن النشاط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، بينما المنظمات غير الحكومية هي منظمات تطوعية غير ربحية للأشخاص المنظمين وتعمل على مستويات محتلفة منها محلية أو إقليمية أو دولية. وتهدف المنظمات اللاحكومية بالدرجة الاولى إلى توفير العدالة الاجتماعية والتنمية وحقوق الانسان.
شخصياً أنا أعرف هذه المنظمات بأنها منظمات لا حكومية، مستقلة بالضرورة، تسعى لتحقيق أجندة للمصلحة العامة، مبتعدةً عن المصالح الخاصة، أو المصالح المالية والربحية.
تسعى معظم هذه المنظمات الى حشد خبرات ومعارف وقدرات افرادها بطرق متنوعة لتحقيق أهداق تنموية، وللمساهمة في خدمة أولويات المجتمع والصالح العام للإنسان في دولة معينة أو على نطاق دولي واسع.
يعتبر العديد من المفكرين السياسيين أنّ المجتمعات التي تنشط فيها مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، مجتمعات اكثر صحية. فدور منظمات المجتمع المدني يشمل على سبيل المثال لا الحصر: الدعم البيئي، والدعم الاجتماعي، والنشاط الحقوقي، وتعزيز التغيير السياسي الديموقراطي. والمقصود بالمجتمعات الاكثر صحية هي المجتمعات التي تحترم وتقدر وتحمي وتدعم حرية و دور وحقوق أفرادها بغض النظر عن الخلفية العرقية والقومية أو العقائدية والفكرية أو الجنسية لأيٍ منهم. و وجود منظمات مدنية وأخرى لاحكومية ذات مصداقية يؤكد أن المشاريع الداعمة للحقوق العامة في ذلك المجتمع مستمرة وعاملة. ومن الامثلة الناجحة المسجلة لدى الامم المتحدة لبعض هذه المنظمات والعاملة على نطاق واسع و دولي، هي:
- منظمة هيومن رايتس ووتش (HUMAN RIGHTS WATCH)…
- منظمة العفو الدولية (Amnesty International)…
- برنامج التنمية للامم المتحدة (UNDP)…
- مفوضية اللاجئات من النساء (WRC)…
- منظمة الصحة العالمية ((WHO…
- منظمة هيومن رايتس فيرست (Human Rights First)…
في تعريفي أعلاه أشرتُ إلى ضرورة توفر الإستقلالية لأي منظمة من منظمات المجتمع المدني أو المنضمات اللاحكومية، ,انا أعتبر ذلك شرط أساسي في تصنيفها. فالاستقلالية هي الضامن الاكبر و الوحيد للحفاظ على كيان العمل المدني اللاحكومي، وبالتالي النجاح في خدمة المجتمع. في هذا الخصوص كتب الدكتور سكوت تي يانغ (Dr. Scott T. Young)
One of the major strengths of NGOs is their ability to maintain institutional independence and political neutrality. Even though NGOs need to collaborate with governments in numerous instances.[2]
“تتمثل إحدى نقاط القوة الرئيسية للمنظمات غير الحكومية في قدرتها على الحفاظ على الاستقلال المؤسسي والحياد السياسي. على الرغم من أن المنظمات غير الحكومية بحاجة إلى التعاون مع الحكومات في حالات عديدة”
وهذه الاستقلالية لن تتحقق الا بكفالة الدستور والقانون والدولة لمبادئ الحريات الشخصية والعامة. ويستلزم أيضاً إلتزام وتمسك تلك المنظمات بالحفاظ على تلك الاستقلالية. ليس بالضرورة أن يكون عمل كل المنظمات المدنية اللاحكومية معارضاً للحكومة، بل أحياناً يكون داعماً لمبادرات حكومية، ولكن على تلك المنظمات إدراك أهمية الحفاظ على مسافة واضحة من الحكومة.
في العراق ماقبل 2003 كانت منظمات المجتمع المدني مسيسة بشكل كبير وبعيدة عن الاستقلالية بكل معانيها، فالدستور العراقي المؤقت الذي أسسه نظام البعث في 1990 كان ينص صريحاً في المادة 55 بتقييد حرية الصحافة والاعلام من خلال الانضباط بمادئ ثورة 17-30 تموز. ثم يعود في المادة 58 لحظر تأسيس احزاب او جمعيات او نوادي قائمة على أسس بعيدة عن منهاج الثورة، كالالحاد (مثلاً)، أو التي ترمي الى رفض القومية. والقومية بما لا يخفى عن الجميع هي العقيدة الاساسية لحزب البعث. فهو حزب قومي بتميز، وأي عقيدة قومية هي عقيدة عنصرية بالضرورة، والعقائد العنصرية لايمكنها أن تسمح لأي طرح أو عقيدة مختلفة عنها بالوجود والنمو. وبالتالي تحولت تلك المنظمات الى جزء من منظومة القمع والاستبداد للنظام البعثي السابق. لذا كانت منظمات المجتمع المدني آنذاك (تشريعياً) منظمات غير مستقلة.
أما بعد 2003، فكلنا يتذكر العدد الكبير من منظمات المجتمع المدني العراقية اللاحكومية (NGO) وخصوصاً في العامين 2004 و2005. ففي دراسة أعدها مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، والمعنونة (المجتمع المدني في العراق: الواقع والتحديات) أكدت الدراسة أنه:
يوجد في العراق حالياً 132 مؤسسة موزعة في نشاطها واهتمامها ما بين الفئات الاجتماعية كالمرأة والطفل والشباب، والمهنية كالمعلمين والمحامين والمزارعين والمهندسين والعاطلين عن العمل، والسياسية كالديمقراطية والسجناء والسلام وحقوق الإنسان، وغيرها من المؤسسات المهتمة بالبيئة، والفنون والرياضة. [3]
وذهب الاستاذ علي طاهر الحمود (أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة بغداد) الى أن عدد المنظمات غير الحكومية في العراق والمسجلة رسميا وصل إلى أكثر من الف وسبعمائة منظمة في عام 2013.
وتشكّل منظّمات المجتمع المدني جزءاً مهماً من الحياة الجديدة في العراق. وقد وصل عددها إلى أكثر من سبعة آلاف منظّمة بحسب بعض الإحصائيات. ولم تلبّ سوى 1770 منظّمة شروط التسجيل الرسمي وفقاً لقانون المنظّمات غير الحكوميّة الذي أقرّ في العام 2010.[4]
وأنا لا أخفيكم سراً ففي 2004 كنت في غاية التفاؤل لرؤية هذا العدد من المنظمات المدنية. وتفاؤلي ذلك كان مبنياً على نقطتين:
الأولى: إيماني الشديد بضرورة بناء دولة علمانية بعيدة عن الارتباط بمؤثرات ايديولوجية دينية أو قومية. فالدولة العلمانية هي النموذج السياسي العالمي الوحيد حالياً للدولة التي يمكنها الحفاظ على حقوق مواطنيها كافة، دون تمييز عرقي أو قومي أو ديني أو آيديولوجي، فذلك من القواعد الرئيسية للدولة العلمانية. وبالتالي توفر الدولة العلمانية مناخاً سياسياً وإجتماعياً داعماً للحريات العامة والخاصة. لذا أنا أرى أن وجود منظمات مجتمع مدني غير حكومية ضروري لبناء ثقافة إجتماعية تتقبل الحياة المدنية العلمانية بعقلية أكثر إنفتاحاً.
الثانية: إيماني الشديد بخطر الحراك السياسي الإسلامي. ولمن لايعرفني فقد سبق لي العمل ضمن هذه الكيانات بشكل مباشر في تسعينات القرن الماضي ولسنوات عديدة. لذا أنا أعلم جيداً كيف يفكر هؤلاء، فهم لايفكرون الا بكيفية السيطرة على مقاليد الحكم ونهب ثروات البلد وتسليمه على طبق من ذهب لمرجعياتهم وولائياتهم الدينية والطائفية، لتتحول الدولة حينذاك من دولة مدنية الى دولة آية الله. (راجع مقالي الموسوم: العراق دولة مدنية أم دولة آية الله) فكان وجود منظمات مدنية بالنسبة لي ضرورياً لدعم صناعة وعي جماهيري يقضي بضرورة تحجيم دور الدين في إدارة الدولة. وفي كل يوم يثبت ما تقدم، فالاحزاب الاسلامية إستطاعت أن تخلق دولة داخل الدولة، وهم يتحكمون بمصير العراق بشكل شبه كامل.
ولكن مع كل هذا التفاؤل كان هناك بعض القلق في داخلي بسبب حداثة هذه المنظمات وعدم نضوج التجربة المدنية في العراق بشكل عام، خصوصاً إذا ما قارناها بعمق وطول خبرة الحركات والاحزاب السياسية الاسلامية. أضف الى ذلك أن العديد من هذه المنظمات المدنية كانت مرتعاً لفساد إداري ومالي كبيرين. والاسوء من كل هذا هو تعرض الكثير منها الى هجين من التوجهات الفكرية والتنظيرية صنع منها مسوخاً لاقيمة لها.
وبالفعل فالكثير من المنظمات الخيرية تحولت الى ذراع تسويقي للكثير من الاحزاب الدينية المتنفذة والتي تملك القدرة المالية الكافية لدعم هذه المنظمات وصناعة بروباغاندا إعلامية. وتحول البعض الاخر من هذه المنظمات الى منظمات رمزية مكتفيةً بإعتراض هنا ومظاهرة في شارع المتنبي هناك أو بحضور صالون ثقافي شعري.
أما المنظمات الجادة فعلياً والتي قاتلت في سبيل صناعة تغيير فعلي على أرض الواقع فتراها تتعرض للكثير من التهديدات ومحاولات الاغتيال، كتب علي عبد السادة (صحفي) في المونيتور -11/1/2013 مقاله الموسوم (الحركة المدنية في العراق … المحارب الاعزل!)
سوى أن الصعود النسبي للحراك المدني في العراق لم يدم طويلاً، ففي تلك الفترة كانت أحزاب الإسلام السياسي تدرس الخطوات القادمة للهيمنة على الشارع. وسرعان ما حدث تحول نوعي في مسار الأحداث، وعلى إثره تعرضت الحركة المدنية إلى أول نكسة في طريقها الوعر. في تموز (يوليو) 2005 سجلت مراكز الشرطة حوادث اغتيال متشابهة من جهة ضحاياها، برغم أن منفذيها يتصارعان طائفياً. في مدينة هيت (من مدن محافظة الانبار غرب العراق) وجد السكان جثة طالب في جامعة الانبار، وهو ناشط في اتحاد طلابي بالعاصمة بغداد، وعليها أثر طعن بالسكين، وقال ذووه أن جماعة مسلحة سنية هددته سابقاً ما لم يعدل عن نشاطه، وكانت قبل أن تهدده طلبت منه الترويج لها في مساجد المدينة.
وفي أيلول (سبتمبر) من العام نفسه عثرت الشرطة، أيضاً، على جثة عامل في عقده الخمسين، وقد فصل رأسه عن بقية جسده، وهو رئيس نقابات عمال في بغداد وكان نشيطاً في تحريض العمال على تشريع قانون جديد للعمل يصلح القوانين السيئة التي شرعها نظام حزب البعث في العراق، ورغم أن الشرطة لم تكن تفيد بنتائج تحقيقاتها في مثل هذه الجرائم إلا أن زملاءه في النقابة وأسرته يعتقدون بأن ميليشيا شيعية قتلته بعد أن طلبت منه التوقف عن “نشاطه الشيوعي”. هنا تبدأ قصة التراجع في الحراك المدني، ومعه ارتفعت وتيرة العنف، وخلت الساحة من سواهم.[5]
ويمكن للجميع تخيل ما حدث بعد ذلك من إنحصار وتهميش “متعمد” لدور منظمات المجتمع المدني اللاحكومية (NGOS). كتب الصحفي ملهم الملائكة:
الحرية والاستقلال يضمنها مصدر التمويل، وأغلب منظمات المجتمع المدني اليوم محرومة من مصادر التمويل الحر، ففقدت حريتها واستقلاليتها وصارت تابعة لأحزاب وجهات وحتى لأشخاص متنفذين تروج لهم ولمشاريعهم وطروحاتهم. الأخطر أن عشرات المنظمات تتلقى تمويلها من مؤسسات دولية أوربية ووغربية وآسيوية ، لكن التمويل وبسبب الفساد يتسرب إلى جيوب أشخاص متنفذين. وقد أيّد الناشط والحقوقي حسن شعبان هذا الأمر، مؤكدا أن عددا من العاملين في سلك منظمات المجتمع المدني كانوا يعملون في سفارات النظام السابق، وقد تعرفوا على منظمات دولية، فصارت هذه المنظمات تثق بهم وتتعامل معهم حصرا بسبب الانهيار الأمني الحالي في العراق.[6]
بحسب إحصائية (لجنة تنسيق المنظمات غير الحكومية لأجل العراق) والصادرة بتاريخ شهر حزيران يونيو 2019، فإن هناك عدد قليل جداً من المنظمات اللاحكومية الناشطة في العراق حالياً. ما شدّ إنتباهي هو أن أغلب تلك المنظمات تعمل في مشاريع خيرية كتقديم الدعم للاجئين والمهجرين، ومشاريع الدعم الطبي الخيري. لم أجد سوى منظمتين، الاولى أشارت في منهاج عملها أنها تريد دعم حياة ديموقراطية مبنية على أسس الحوار المتبادل، وهي مؤسسة عاملة في إقليم كردستان، وحين مطالعة مشاريعها للسنوات من 2015 الى 2017 وجدت أنها أنفقت في غضون هذه السنوات قرابة 300 الف دولار أمريكي بين مشاريع مساعدة النازحين والمهجرين ومشروع لتثقيف نساء قرى الاقليم ضد ختان النساء، ومشروع اخر رقابي لدوائر التعليم والصحة والزراعة والشؤون الاجتماعية في الاقليم. أما المنظمة الاخرى فهي عملت في جنوب العراق في عام 2014 وكان احد مشاريعها زيادة وعي الشباب الناخبين لاول مرة في محافظة ذي قار، قبل الانتخابات التشريعية في عام 2014.
ما أود توضيحه أن مشروعات منظمات المجتمع المدني اللاحكومية في العراق تتضاءل بشكل كبير و مستمر، مبتعدةً عن العلاقة بمشاريع التغيير الثقافي وصناعة الوعي السياسي الجماهيري. ولأسباب عديدة قدمتُ بعضها أعلاه ولكني يمكنني إجمالها هنا بما يلي:
أولاً: أسباب فكرية ومنهجية:
أ- التضحية بإستقلالية المنظمات اللاحكومية، فقد وقع العديد من هذه المنظمات بخطأ منهجي فادح وهو محاولة التناغم مع الحكومة أو بعض الاحزاب المتنفذة من أجل طلب التمويل وبالتالي حصل الاسوء وهو تحولها الى اذرع دعائية تسويقية لتلك الجهات، مما جعل تلك المنظمات تضحي بإستقلاليتها. ويعتبر هذا الخطأ في منظمات العمل المدني اللاحكومي هو خطأً فكرياً ومنهجياً قاتلاً. كتب شمخي جبر:
بعضها واجهات حزبية للترويج للاحزاب وبخاصة في فترة الانتخابات. بعض الاتحادات والنقابات مازالت تعمل وفق قوانين ماقبل 2003 بل بعضها مازالت تحصل على هبات من الحكومة لهذا تدافع عن ارتباطها بالحكومة بوصفه مصدر قوتها مضحية باستقلاليتها.[7]
ب- غياب البرامج التوعوية لاعضاء هذه المنظمات مما أدى الى إستشراء الجهل في الكثير منها. ففي حوارات شخصية لي مع عدد من مؤسسي وأعضاء بعض المنظمات المدنية اللاحكومية، إكتشفت بشكل محزن أن أغلبهم لايعي معنى العمل المدني اللاحكومي، وأن بعضهم يعمل من أجل لقمة العيش.
ثانياً: أسباب أمنية وسياسية محلية وإقليمية:
أ- فبضغط وعنف كبيرين من قبل الحكومة العراقية والاحزاب والميليشيات الحاكمة، فإن وجود منظمات تدعم اي تغيير أو حراك مدني علماني وديموقراطي لن يكون سهلاً مطلقاً.
في تقرير لهيومن رايتس ووتش عن العراق (إستهداف مجموعة سياسية في البصرة / مقتل مئات المحجتين منذ أكتوبر / تشرين الاول 2019 ولا ملاحقة للرتب العليا)
قالت بلقيس والي، الباحثة أولى في قسم الأزمات والنزاعات في هيومن رايتس ووتش: ازدادت حدة الوضع في العراق لدرجة أن المسلحين يستطيعون أن يجولوا الشوارع ويطلقون النار على أعضاء المجتمع المدني بلا عقاب. من غير الواضح ما إذا كانت الحكومة الاتحادية قادرة حتى على كبح جماح العنف في هذه المرحلة وضمان العدالة للضحايا”. قال ثلاثة أعضاء ل هيومن رايتس ووتش إن الضحايا الذين قضوا في البصرة مؤخرا لهم صلات ب “تجمع شباب البصرة المدني”، وهو مجموعة أسسها متظاهرون شباب في 2014 لتنظيم الاحتجاجات في المدينة. قرر أعضاء التجمّع مؤخرا تشكيل حزب سياسي جديد . للمشاركة في الانتخابات البرلمانية المقررة في يونيو/حزيران2021. [8]
ب- كذلك لن يناسب وجود مثل هذه المنظمات بعض الدول الإقليمية اللاعبة والمستفيدة من بقاء العراق على هذا الحال كإيران مثلاً.
نقل بيتر غالبريث في كتابه (Unintended Consequences; How War in Iraq Strengthened America’s Enemies) (نتائج غير مقصودة، كيف دعمت الحرب على العراق أعداء أمريكا) ص 73 بعض الكلمات من الرئيس الامريكي السابق جورج دبليو بوش في خطابه بمناسبة المؤتمر السنوي ل ( American Legion) بتاريخ 28/8/2007 أي قبل نهاية ولايته الثانية بأشهر قليلة:
For all those who ask whether the fight in Iraq is worth it, imagine an Iraq where militia groups backed by Iran control large parts of the country. [9]
“لكل الذين تساءلوا ما إذا كانت القتال في العراق يستحق كل هذا العناء، تخيلوا عراقاً تسيطر فيه ميليشيات مدعومة من إيران على أجزاء كبيرة من البلاد.”
فإيران هي المستفيد الاكبر من بقاء الحال على ماهو عليه في العراق، وهذا ما أدركه الشعب والحركة المدنية والعلمانية في العراق. فإيران فعلياً لاتستطيع أن تخلق نسخة ايرانية في العراق، وذلك لاسباب منها على سبيل المثال: خصوصية التعدد الطائفي والقومي في العراق، فالشيعة في العراق ليسوا الاغلبية المطلقة كما هم في ايران، والعرب السنة والاكراد (وهم في الاغلب مسلمون سنة) يشكلون نسبة ليست بالقليلة من الشعب العراقي. صحيح أننا لايمكننا الحصول على إحصائية رسمية موثوقة بالاعداد والنسب ولكننا نستطيع الجزم على الاقل بأن الخليط القومي والديني والطائفي في العراق مختلف تماماً عمّا هو في ايران. ومن الاسباب الاخرى، رغبة إيران بفتح خط للهلال الشيعي، وإبقاء الصراع في أراضي أخرى بعيدة عنها، فهي تعتبر حزب الله في لبنان، والحكومة العلوية في سوريا، والميليشيات الشيعية في العراق خطوط حماية لها.
ثالثا: أسباب تمويلية:
أ- فالحكومة العراقية لاتخصص أي دعمٍ يذكر لمثل هذه المنظمات، فبحسب قانون المنظمات غير الحكومية رقم 12 لسنة 2010، تنص المادة 13 الخاصة بموارد التمويل للمنظمات اللاحكومية على ما يلي:
تتكون موارد المنظمة مما ياتي :
اولا-اشتراكات الاعضاء
ثانيا- التبرعات والمنح والوصايا والهبات والهدايا الداخلية والخارجية.
ثالثا- العوائد الناتجة من نشاطات المنظمة ومشاريعها.[10]
حتى وصل الحال لبعض هذه المنظمات الى حالة تشبه الاستجداء، وحتى أن بعض مؤسسي وأعضاء هذه المنظمات يضطر للصرف من ماله الخاص على بعض مشاريع منظمته فقط لتستمر المنظمة بالوجود على أرض الواقع. ولكن الاغلب الاعم لايستطيع الاستمرار. وهذا ما ترغب به الحكومة وأحزابها وميليشياتها.
ب- ولو تكلمنا عن الممولين من الخارج، فعلى سبيل المثال وبحسب الموقع الرسمي ل USAID بلغ حجم الدعم الامريكي للعراق في سنة 2003 قرابة 3.8 مليار دولار. وليستمر بالارتفاع حتى بلغ ذروته في عام 2006 ليصل الى 9.7 مليار دولار. بعد ذلك بدأ مؤشر الدعم الامريكي للعراق بالانخفاض شيئاً فشيئاً ليصل الى أقل معدلاته في عام 2020 حيث بلغ حجم الدعم الامريكي للعراق لقرابة 450 مليون دولار. هذه المساعدات تذهب لمشاريع عديدة أدناه يمكنكم الاطلاع على الجدول اعلاه والذي يبين المجالات التي اختارتها الحكومة الامريكية لمساعدة العراق.
لماذا هذا الانخفاض الكبير في الدعم؟ فالازمة الاكبر هي إنهيار الثقة بين المنظمات اللاحكومية العراقية من جهة وبين الدول الداعمة من جهة أخرى، وذلك بسبب إهمال الحكومة العراقية لهذه المشروعات وأيضاً بسبب كمية الفساد في المنظمات اللاحكومية العراقية ووسطاء التمويل. وأنا لن أستغرب أبداً، إن إستمر الحال على ذلك لبضع سنوات اخرى، أن تتحطم فكرة تمويل المنظمات اللاحكومية المستقلة في العراق بشكل كامل.
رابعا: أسباب تفاعلية:
أ- إنخفاض رغبة أعضاء التيار المدني نفسه في العمل ضمن هذه المنظمات ، ففي الاغلب الاعم تجد أن هناك عدم تنسيق أو تعاون بين المنظمات اللاحكومية العراقية. وتجد أن الكثير من المنظمات قد همشت دور المجتمع وأكتفت بالعمل ضمن النخبة.
ب- عدم ثقة الشعب العراقي بجدوى تلك المنظمات على أرض الواقع، نقل ملهم الملائكة بعض آراء المواطنين
أم يوسف أكدت بالقول: “إن هذه المنظمات غير فاعلة وتنشط فقط أمام أجهزة الإعلام لتضمن تدفق الأموال إليها“. من جانبها تساءلت المستمعة هديل من البصرة في مداخلة وضعتها على فيسبوك” هناك منظمات للمجتمع المدني تعمل بشكل مخفي بهدف معلن هو مساعدة الضعفاء وخصوصا الذين فقدوا معيلهم الوحيد، ولكن الهدف الحقيقي أبعد من ذلك، لأنهم يعملون لحزب معين ولو كان هدفهم فعلا كما ذكروا لماذا هذا التخفي ؟؟ أليس هذا تساؤل ( منطقي) ؟“. المستمعة أم علي من بغداد تساءلت” ماذا فعلت منظمات المجتمع المدني منذ عام 2003 حتى الآن؟ إنها لم تفعل شيئا قط، أين هي حقوق الإنسان؟ أين هي حقوق الطفل؟ أين هي حقوق المرأة؟ وكل من يظهرون على شاشات التلفزة وخلف مايكروفونات الإذاعات وفي الصحف يكذبون [11]
خامساً: أسباب أخلاقية
أ- إنتشار الفساد المالي والاداري في العراق، فبحسب منظمة الشفافية العالمية حصل العراق على نسبة 21% وحلّ في المركز 160 بين 180 دولة وإقليم من حيث نسب الشفافية ومقارنتها بالفساد العام. والمنظمات اللاحكومية ليست ببعيدة عما يجري في العراق بشكل عام، فكما أن هناك ظاهرة فساد مالي وإداري كبيرة في العراق، فإن نفس الظاهرة لحقت الكثير من المنظمات اللاحكومية. كتبت الصحفية العراقية سماح صمد العاملة في معهد صحافة الحرب والسلام (ومقره في لندن)
وواصل المصدر قائلاً: كان البعض منهم مجرد أناس يحاولون ايجاد طريقة لكسب المال، والبعض الآخر كان مهتماً بشكل صادق بتوفير الخدمات للناس. لكنني استطيع القول بان معظم المنظمات غير الحكومية تراجعت مع مرور الوقت، والسبب الرئيس في ذلك هو عدم مقدرتها في جمع الاموال. ولم تعرف المنظمات غير الحكومية المحلية حقيقة، كيفية صياغة مقترحات مناسبة للمموليين الدوليين، كما لم تكن لهذه المنظمات اشخاص او علاقات تشهد لها أو تكفلها. [12]
ب- الكثير أن لم يكن الاغلب من المنظمات تحولت منهجياً الى خليط بيروقراطي جديد، لاغيةً أهمية العمل الجماعي، ومعتمدةً على فردية القرار، وإختصار قيمة العمل الجماعي.
رغم كل ما تقدم من فرص ضائعة وسلبيات وإنتقادات، لكن تجربة منظمات المجتمع المدني والمنظمات اللاحكومية (NOGs) في العراق بعد سقوط نظام البعث إستطاعت تحقيق بعض الانجازات ومنها المشاركة المستمرة والدعم الاستشاري في المظاهرات المدنية السلمية، ومنها أيضاً على سبيل المثال إنشاء تحالف المادة 38 من الدستور (للدفاع عن حرية التعبير والتظاهر وحرية الصحافة والاعلام)، بالاضافة لعدد كبير من المبادرات والتي تفوق بعضها، فيما تحول بعضها الاخر لوجود أو حراك رمزي نوعاً ما. ولكننا لو أدركنا أن التغيير الذي تقدمه المنظمات المدنية لابد أن يكون تغييراً جزئياً فالموضوع ليس سحراً وليس إنقلاباً، أقول لو أدركنا قيمة التغيير الجزئي والخطوات نحو الافضل مهما كانت بساطة تلك الخطوات سندرك أن تجربة منظمات المجتمع المدني في العراق بعد 2003 ورغم كل التحديات والمصاعب الكبيرة، إستطاعت التغلب على العديد من العقبات.
الخلاصة:
مرت تجربة المنظمات اللاحكومية ومنظمات المجتمع المدني في العراق بعد 2003 بمنعطفات عديدة، ففي البداية كانت الحركة غاية في النشاط وأثمرت عن بعض الانجازات التي تحسب لصالح الحركة المدنية (صغيرة كانت تلك المكتسبات أو كبيرة)، لتتعرض بذلك تلك المنظمات الى كثير من العنف من قبل الحكومة العراقية والاحزاب الحاكمة والمتنفذة وميليشياتها، إضافة للعديد من الاسباب الاخرى، حالت دون قدرة تلك المنظمات على الاستمرار بنفش الوتيرة، للتحول بعدها شيئاً فشيئاً الى عبئ كبير على كاهل الحركة المدنية في العراق. فلاهم تركوا العمل المدني واراحوا واستراحوا، ولاهم حافظوا على إستقلاليتهم، ولاهم أقنعوا الشعب العراقي بجهودهم، ولاهم حافظوا على سمعة المنظمات اللاحكومية أمام الدول الداعمة. ليتحول الكثير من هذه المنظمات الى بؤر للفساد وأيادي تسويقية للحكومة وأحزابها. وبالتالي حرمت التصرفات العديد من النشطاء الراغبين فعلاً بالعمل المدني المستقل. لتصبح فكرة إنشاء مؤسسة لاحكومية في العراق الان أصعب بكثير من أي وقتٍ مضى.
Sources:
1- NGOs AND CSOs: A Note On Terminology. P-123
2- Young, Scott T. and Dhanda, K. Kathy (2013) “Sustainability, Essentials for Business”. Ch-9, P-225.
3- The Emirates Center for Strategic Studies and Research 2004, Date Oct 24, 2004,
<https://www.ecssr.ae/reports_analysis/المجتمع-المدني-في-العراق-الواقع-والتح/>
4- Al-Monitor 2013, Date Sept 23, 2013,
5- Al-Monitor 2013, Date: Jan 11, 2013,
<https://www.al-monitor.com/pulse/ar/originals/2013/01/iraqi-civilian-movement-absent.html>
6- DW Deutsche Welle 2013, German Public State, Date: Oct 25, 2013,
<https://www.dw.com/ar/ماذا-بقي-من-منظمات-المجتمع-المدني-في-العراق/a-17183462>
7- Rewaq Baghdad 2020, Date: June 28, 2020,
<https://rewaqbaghdad.org/المجتمع-المدني-في-العراق-المأمول-والم/>
8- Human Rights Watch 2020, United States of America, Date: Aug 26, 2020, <https://www.hrw.org/ar/news/2020/08/26/376197>
9- Galbraith, Peter W. (2008) “Unintended Consequences; How War in Iraq Strengthened America’s Enemies” P-73
10- Iraqi Non-Gov Org Law #12 year 2010,
<https://arb.parliament.iq/archive/2010/02/17/قانون-المنظمات-غير-الحكومية-رقم-12-لسنة-201/ >
11- DW Deutsche Welle 2013, German Public State, Date: Oct 25, 2013,
<https://www.dw.com/ar/ماذا-بقي-من-منظمات-المجتمع-المدني-في-العراق/a-17183462>
12- Institute for war and peace reporting 2010, Date: Sep 6, 2010,
<https://iwpr.net/ar/global-voices/tdawl-qta-almnzmat-ghyr-alhkwmyt-fy-alraq>