ماذا يعني أن تتطرف العلمانية؟!
ماذا يعني أن يتمنى الكثير من القريبين من العلمانية أن تتخلى العلمانية عن قيمها وتتحول الى دكتاتورية إقصائية؟!
ففي الجولة الأولى لاحظنا أن اليمين المتطرف قد حصل على قرابة 21% من الاصوات
كيف إستطاع اليمين المتطرف في فرنسا (دولة التنوير الأولى في العالم) من الحصول على قرابة 33% من أصوات الناخب الفرنسي؟!
فبالرغم من فوز الرئيس الفرنسي المنتخب الجديد -ماكرون- بنسبة تزيد على 66% وهي بالمعاني الاحصائية والانتخابية تعتبر فوزاً كاسحاً، ولكنها في نفس الوقت مؤشر خطير جداً لنمو اليمين المتطرف هناك.
فهل يبرر نمو حركة راديكالية في مكانٍ ما، خلق يمين متطرف في نفس المكان كدفاع عنه؟ أو كردِّ فعل؟! أو حتى كتقويم للحركة العلمانية والليبرالية هناك؟
ماذا يعني أن تتعالى أصوات عديدة للدفاع عن المرشحة المتطرفة لوبان؟! هل تراخي العلمانية في فرنسا في التعامل مع الحركات الراديكالية التي نمت هناك وأدّت الى إنتاج الإرهاب الاسلامي، هل تراخيها هذا يعني أن نقوم بالمطالبة بإلغائها والتحول إلى حراك يميني متطرف؟! بإعتبار ان اليمين المتطرف سيكون حاسماً ومتشدداً مع أي الإرهاب الإسلامي.
متناسين أن برنامج السيدة لوبان يدعُ لإخراج فرنسا من الإتحاد الأوروبي، والداعِ للوقوف بالضد من برنامج الهجرة، وللوقوف بالضد من برنامج التجارة المنفتحة.
فالقضية ليست مجرد موقف من الإرهاب يا سادة. كلنا نعلم أن اليمين ليس إتجاهاً علمانياً، متطرفاً كان أم محافظاً، فاليمين قومياً كان أو دينياً أو حتى عُرفياً في بعض الصور، لديه أولويات تتناسب مع توجهه العام ولا تلتقِ هذه التوجهات مع العلمانية بشكل عام. فطالما كان الاتجاه يميني إذن النتيجة الحتمية هي وقوفه مع إتجاه معين دون آخر. وهذا يخالف جوهر العلمانية في عدة نواحٍ منها:
أولاً: أنَّ العلمانية تقف على مسافة واحدة من الجميع، أمّا اليمين، متطرفاً كان أم محافظاً، فلن يستطيع ذلك، فوجوده أصلاً قائم على الوقوف بإتجاه معين.
ثانياً: أنَّ العلمانية تبني توجهها العام من خلال إلغاء المطلقات، على عكس اليمين فهو قائم أساساً على الثابت المطلق، سواء كان قومياً أو دينياً أو عرفياً كما قدمنا أعلاه. ودعونا هنا نلقِ نظرة بعجالة على أصناف اليمين بشكل عام:
اليمين الطبقي الإجتماعي
اليمين المكافح للشيوعية
اليمين الإقتصادي
اليمين القومي
اليمين التقليدي
اليمين الشعبوي
اليمين الديني
فلو جربنا القراءة عن مبادئ وقيم ومبتنيات كل هذه الأصناف سنصل بكل وضوح إلى تضادها مع العلمانية وإعتمادها المطلق الثابت على عكس العلمانية.
ثالثاً: لقائلٍ أن يقول طالما أن اليمين غير ديني بالتالي سيتمكن من فصل الدين عن الدولة وتتحقق بذلك العلمانية هناك بل ويضربون مثلاً في أن أغلب حكومات الجمهورية الخامسة في فرنسا كانت حكومات يمينية (أنا أستخدم فرنسا كمثال لوحدة الموضوع) وهم أكثر من تشدد في ضبط فصل الدين عن الدولة، ويضرب لذلك مثالاً بقرارات منع الرموز الدينية في المدارس أو المنشآت الحكومية. وأجيب عن ذلك بالقول: أن القيمة الكبرى للعلمانية هي ليست فصل الدين عن الدولة بل هي الوصول بالمجتمع الى القيم الليبرالية، فقرار مثل منع الرموز الدينية كالحجاب والصليب والقلنسوة اليهودية وغيرها من القرارات التي نجح بتمريرها التيار اليميني سابقاً، أقول مثل هذه القرارات لاتصبُّ في مصلحة العلمانية بشئ، بل وبتعبير أكثر وضوحاً أنا أراها بعيدة كل البعد عن العلمانية.
وهذا لايعني أني رافض أو موافق على قرارات كهذه، ولكني أتكلم عن القيمة في ذلك.
فهل ستقوم العلمانية بتجريد المسلمين أو المسيحيين أو غيرهم من عقائدهم؟!
فنحن نعلم جميعاً أنَّ كل عقيدةٍ ولها لوازمها، ومن لوازم بعض العقائد إرتداء أزياء معينة أو أداء طقوس معينة أو حمل شئ معين.
فماهي القيمة السياسية والفكرية والاخلاقية والاجتماعية أيضاً المبتناة على مثل هذه القوانين؟ فأنت لم تمنع أصل العقيدة تلك، ولم ترفض الحجاب والصليب في الأماكن العامة، ولم تغلق المساجد والكنائس والمعابد، كل ما فعلته هو إلغاء إبراز الرموز الدينية في دوائر الدولة والمدارس؟! بل أنت لم تقم بمنع الكلام عن الدين أصلاً… فلاقيمة لمثل هذا النوع من القرارات سوى خلق ضمير إجتماعي متوتر تجاه الدولة… وبالتالي لاقيمة للقول بأن بعض التيارات اليمينية ستنجح بفصل الدين عن الدولة.
أخيراً أودُّ أن أقول: أن ضعف العلمانية ليس مبرراً لصعود تيارات يمينة، بل أنَّ ما نحتاجه فعلياً هو تيار أو إتجاه أو حكومة علمانية منضبطة، حازمة في تطبيق القانون والقضاء على أيِّ حركةٍ راديكالية، ومن أيِّ نوع، وفي نفس الوقت لن تتنازل على القيمة الكبرى للعلمانية وهي الوصول بالمجتمع إلى الليبرالية.