العراق دولة مدنية أم دولة آية الله

العراق دولة مدنية أم دولة آية الله؟

 

بنظرة سريعة على العراق ستكتشف بوضوح أن البلاد تقف الآن عند مفترق طرق حرج. إنها تترنح على حافة الاختيار بين تبني حكم علماني مدني، خالٍ من جميع المفاهيم المقدسة والمنقولة، واستمرار الهبوط في هاوية الفساد تحت مظلة العمائم المقدسة. ومع ذلك، عند التفحص الدقيق، يصبح من الواضح جداً أن التجربة العلمانية والمدنية لم تنم في الشارع العراقي بشكل كاف.

 

حتى الأصوات التي كانت تعترض بشدة على الفساد الديني، وتهتف بصوت عالٍ قائلةً: “باسم الدين، سرقونا اللصوص”، حتى هذه الأصوات بدأت تتلاشى تدريجيًا أمام موجة السلطوية الدينية. والأمر الأسوأ هو أنّ رموز تلك الحركة المدنية الآن يسعون للحصول على بركة السلط الدينية لجهودهم. إذ يؤيدون ويدعمون بحماس شديد مقتدى الصدر وتياره الفاسد، حتى أنهم تغنّوا بالبيان الصادر في 9/9/2015 عن اللجنة التي تمثل المتظاهرين.

 

هذا التحول في الديناميات يرسم صورة معقدة لصراع العراق من أجل العلمانية والحكم المدني. إنه يشير إلى وجود رغبة بين بعض الأطياف في التحرر من التدخل والفساد الديني، ولكن الرحلة نحو مجتمع حقًا علماني ومدني لا تزال تمر بتحديات. إن جاذبية الدعم الديني وتعقيدات الواقع السياسي قد أزالت الحدود بين القوى العلمانية والدينية داخل العراق. لقد أدى الزخم الأولي للحركات المدنية إلى وجود مشهد أكثر تعقيدًا، حيث تتداخل الخطوط بين السلطة العلمانية والدينية بشكل متزايد. وقد يثبت ذلك موقف الحزب العراقي الشيوعي الراضخ والداعم لكل مواقف المرجعية الشيعية، شرّ البلية ما يضحك.

 

المأزق الذي يواجهه العراق في هذا الوقت يتعدى اختيارًا بسيطًا بين العلمانية والحكم الديني. إنه يعكس الشبكة المعقدة من القوى السياسية والاجتماعية والدينية التي تتنافس من أجل التأثير والسيطرة داخل البلاد. ومع وقوف العراق على حافة الهاوية، يتدلى مصير طموحاته نحو العلمانية والحكم المدني على المحك، حيث يظل صراع الهوية والحكم سردًا معقدًا ومتطورًا.

 

من المشاكل الأخرى التي تعانيها الحركة المدنية والعلمانية هناك هو تحول أو لنقل فشل الخطاب السياسي تحت ذريعة التهديد الكبير الذي يواجهه العراق من تنظيم داعش الإرهابي الذي يحتل أجزاءً كبيرةً من العراق. إن هذا التحول يسلط الضوء على التوازن الهش بين الحفاظ على الاستقرار والتقدم نحو نظام علماني مدني والتخلص من الفساد الديني والمؤسسات القائمة.

 

إن التجربة السياسية المدنية في العراق تعتبر بالفعل فريدة من نوعها، حيث كانت محاطة بتحديات ضخمة ومعقدة. في وقت كانت الحروب الطائفية تعصف بالمنطقة بأكملها، خرج أبناء هذا الشعب للتعبير عن رفضهم للإسلام السياسي بشكل صريح وجريء. لم ينس الشعب العراقي أصوله العريقة كسومريين وبابليين، ولم يتقبل بصمت الهوان والذل.

 

ومع ذلك، يتجلى النضوج الناقص والتحديات التي تواجه التجربة المدنية والعلمانية في العراق بشكل واضح عند النظر بعمق. فالحركة المدنية التي نشأت بعد سقوط نظام البعث لا تزال في مراحلها الأولى من التطور، وتتركز أساساً على مطالب خدمية. إن هذه المطالب الخدمية ضرورية ومهمة، ولكنها لا تعالج جذور مشكلة الفساد التي انتشرت في كل مفاصل الحكومة والطبقة السياسية.

 

على الرغم من توجيه الانتقادات نحو الحكومة الفاسدة ومحاولة منح رئيس الوزراء الحالي حق القيام بالإصلاحات، إلا أن الواقع المرير يظهر أن الفساد السياسي له جذور عميقة وأن الطبقة السياسية ككل تشكل جزءًا من هذه المشكلة. إنهم يستمرون في السيطرة على مقدرات البلاد ويمارسون الفساد بلا حسيب ولا رقيب.

 

هذا الوعي الناقص لا يمكن أن يحل المشكلة بالكامل. لا بد من أن تنمو التيارات المدنية والعلمانية في العراق وتتطور لتشمل مطالب أوسع وأعمق، تستهدف إصلاح النظام السياسي بشكل جذري وتحقيق العدالة والشفافية. إن تحقيق هذه الأهداف يتطلب وقتًا وجهدًا كبيرين، ولكنها الطريقة الوحيدة لبناء مستقبل أفضل للعراق والتغلب على الفساد والمحسوبيات السياسية.

 

وبالفعل، فهم يدركون الان أن رئيس الوزراء الحالي، حيدر العبادي، يماطل ويتلاعب مع التيارات المدنية والعلمانية في العراق. لقد بدأوا يشعرون بأنهم فقدوا الثقة التي كانوا قد أولوها له في بداية اندلاع المظاهرات، وبدأوا يطالبون برحيله وتغيير القيادة الحالية.

 

إن التحدي الذي تواجهه الحركة العلمانية والمدنية في العراق هو محاولة مواجهة الضغوط والتدخلات الدينية والسياسية في الشؤون الحكومية. إنهم يعون تمامًا، الان، أن المرجعية الدينية الشيعية ليست سوى جزء من المشكلة الكبيرة للفساد في البلاد، وهم يرون كيف تدعم هذه المرجعية التيارات المتطرفة والفاسدة.

الواقع المرير يكمن في أن بعض المتظاهرين الذين يسعون إلى إقامة دولة مدنية تحترم حقوق جميع المواطنين في العراق، يجدون أنفسهم متورطين في تعليمات وتوجيهات تصدر عن مراجع دينية خارجة لاتحمل الجنسية العراقية. يطرحون تساؤلات مهمة حول الهوية الوطنية والتوجه السياسي المرغوب في تحقيقه في البلاد.

 

أين هم العقول العراقية التي يمكن أن تتخذ قرارات مستقلة تتوافق مع مصلحة البلاد دون التدخل الخارجي؟ هل هذا هو ما تمثله الدولة المدنية المستقبلية التي يحلم بها هؤلاء التيارات؟ هل يمكن للعراق أن يتجاوز التدخلات الخارجية ويحقق الوحدة والاستقلال الوطني؟ هل هذا هو عنوان الدولة المدنية العلمانية التي تحلم بها هذه التيارات؟ أم أنها دولة آية الله؟

 

ببساطة ووضوح سنصل الى نتيجة واحدة مفادها ان التيار العلماني في العراق لايزال في المهد ويحتاج الى العديد من التجارب والادراكات حتى يصل الى مرحلة من الوعي والنضج الفكري والسياسي، ليدرك ان الجامع المانع للبلد ولسياسته هو العراق وحده لا شريك له.

 

لو ادركت وتفهمت تلك التيارات هذه الحقيقة سيصلون بكل سلاسة الى دولة تحترم ابناءها ولاتفرق بينهم عرقيا او طائفيا. ولن يكون في هذه الدولة الوطنية اي حاجة لعمامة لتجيد اللهجة العراقية، لاتدرك هل ان البرتقال يباع بالكيلو ام بالحبة. اعطوهم المزيد من الفرص وستحصلوا على المزيد من خيبات الامل. وتذكروا ان المستقبل ليس سوى نتاج ما نصنعه اليوم بأيدينا.