بين أن تتقبل الواقع السائر نحو التطرف بأغلب الإتجاهات، وبين أن ترفضه جملة وتفصيلاً وتنتفض لصناعة واقع أفضل. هذه هي المهمة الأصعب أمامنا جميعاً في الوقت الحاضر. وليست الصعوبة في المواقف قدر صعوبة إستيضاحها والوصول الى رؤية موضوعية. فبعد أن يرفض البعض الوشيجة الافضل للتعايش السلمي في دولة القانون العلمانية، لابد لنا ولنقل لابد للعلمانية من استيضاح الموقف وإتخاذ الإجراء الملائم.
فالعلمانية ليست فقط أن تقف الدولة على مسافة واحدة من الجميع، العلمانية أيضاً هي الضامن والحارس لهذا النوع من التعايش السلمي. وهذا الموقف الذي يجب أن تتخذه العلمانية تجاه هذا العنصر يجب أن يكون واضح المعالم يتناسب مع قوة الخطأ الحاصل ولكن ليس بالضرورة أن يعاكسه في الاتجاه.
كيف ذلك؟
ما يلزم العلمانية هو إتخاذ الموقف الملائم تجاه أي فعل يستهدف قيمها. وهذا الموقف يجب أن لايكون بإسلوب ردود الأفعال المبنية على مواقف متشنجة، وغير مدروسة.
علينا أن نعي أننا كعلمانيين لايمكننا إلغاء حق الآخر بإعتناق فكرة. نعم أية فكرة!
ولكن ماذا لو كانت تلك الفكرة لاتعط الحق للآخرين بإعتناق أفكارٍ أخرى؟! وماذا لو كانت تلك الفكرة مبنية على أساس الأممية والتعميم والإطلاق؟! وماذا لو أسندت تلك الفكرة بخرافات الحاكمية والخلافة؟! وماذا لو تحول ذلك المعتنق لتلك الفكرة إلى آلة خطيرة تقتل وتجبر الآخرين على إعتناق فكرته تلك؟!
وماذا لو كان الإعتناق لتلك الفكرة يحتوي تفسيرات وإجتهادات متعددة بعضها يتصور أن الفكرة لاتعدو أن تكون فكرة صوفية أو أن بعضهم ينتظر موعوداً خرافياً آخر الزمان ليتحول بعدها إلى إرهابي ويكون شعاره الوحيد (أمت أمت)؟!
العلمانية يا سادة لاتعطِ حق ولا تأخذ حق، فالعلمانية ليست آيديولوجية لتحدد مصيرنا الفكري. العلمانية بالأصل فكرة وطرح مبني على تقبل وإحترام الاختلاف.
إذن ماهو الحل للخروج من هذه المعضلة الفكرية؟
كل الاطروحات والنظريات، وإن شئت سمها الفلسفات و الأديان، كلها بدون استثناء مبنية على صحة طرحها وخطأ الطرح الآخر.
فحينما يكون لدي شخصياً طرح ما، فبكل تأكيد إني أرى صوابه. وبكل تأكيد أرى خطأ الآراء الأخرى. فلو أني رأيت صواب تلك الآراء لما تمكنت من الوصول إلى رأيٍ مختلف.
فمن يقول بأن الاهه ذو أقانيم ثلاث، فهو بالضرورة يرى خطأ من يقول أن الله هو الاهه الذي لم يلد ولم يولد. وهذا أيضاً يرى خطأ أطروحة صاحبه الذي فلق البحر إلى نصفين، وكل هؤلاء يرون خطأ من يعبد براهما وشيفا، وهذا بدوره يرى خطأهم جميعاً وخطأ كل من يقول بالبوذية، وقس على ذلك.
كل هذا يشمل الملحدين أيضاً وأنا منهم، فنحن نرى خطأ كل هؤلاء أيضاً وصوابنا نحن. وكل هؤلاء لديهم مبرراتهم لصحة وصواب ما يطرحون. فهذه هي طبيعة الفكر اإنساني.
العلمانية برأيي الشخصي لن تتدخل في أفكارك أنت، ولكن القوانين ستمنعك من تنفيذها في حال كونها أفكاراً إقصائية. وأرجو ان تضعوا عشرة خطوط تحت كلمة “تنفيذها”.
العلمانية ستكون معنا جميعاً طالما أننا موافقون على التعايش السلمي، ولكن حينما يقوم أحدنا أو بعضنا بالاقتصاص من الاخرين وفرض عقيدته وفكرته عليهم، ستتدخل دولة القانون والذي تم إنتخابه والتصويت عليه بشكل ديموقراطي، ستتدخل لتنهِ هذا الإشكال.
والتدخل بالحل لا بالحرب.
بمعنى أننا بحاجة كعلمانيين أن لانقوم بتجريم المسلم لكونه مسلماً ولا المسيحي لكونه مسيحياً ولا ولا ولا…
نحن بحاجة إلى فرز متوازن لمن يرغب بخلق فكرة تنتمي إلى دولة القانون وترغب بالتعايش السلمي فيكون لديه مكان داخل هذه الدولة. ولمن ايرغب بهذا التعايش فعلينا أن نقوم كدولة وكمنهج وكمفكرين ومثقفين بالعمل سويةً على تقويم هذا الفكر والمنهج.
نعم قد يستلزم العمل الأمني ولكنه بالضرورة يستلزم العمل الفكري بالدرجة الأولى.
أمّا أمنياً فلايمكننا كعلمانيين أن نقوم بإقصاء فكرة ما، أو عقيدة معينة. فهذا الامر علاوةً على كونه مستحيلاً (ذلك أن الفكرة لا يمكننا إيقافها أمنياً أوعسكرياً)، فهو يتنافى مع العلمانية بالأساس.
إذن أمنياً يجب علينا تحديد أهدافنا، في من هو أو هي ممن قرر تحويل أفكاره الإقصائية إلى قرار نافذ يمارس في الشارع، ليعلن قيام دولته تحت أيِ عنوان.
أما فكرياً وأيديولوجياً فسيكون هذا واجب الجميع من الدولة والشعب لمقارعة تلك الفكرة.
وعلينا أن نعِ كعلمانيين أننا لم ولا ولن نتمكن من القضاء على فكرة ما بالكامل طالما أننا نقوم بطرد أصحابها. فهل يعقل أن ندرس الفكرة من خصومها؟!
إذن بالضرورة العلمانية ليست ثقافة طرد أو منع… بل هي ثقافة تعايش وفهم متوازن وإدراك لقيمة التنوع والإختلاف.