ملاحظات ختامية
كيف يعيش الملحدون؟ ماهي قيمهم الأخلاقية؟ وماهو هدفهم في الحياة؟
“إن لم يكن هنالك إله، فكل شئ سيكون مباحاً”
يروى ذلك عن ديستويفيسكي، علماً أنه لم يقل ذلك مطلقاً. ولكن التفكير العام لأغلب المؤمنيين أنَّ غياب الإله من المعادلة الأخلاقية يعني أن كل شئ مباح ولاقيمة له. وبالتالي فإن أول التهم الموجهة للملحدين هو غياب القيم الأخلاقية. ذلك لأن المؤمنين يرون ان وجود الإله في المعادلة الأخلاقية سيكون معادل موضوعي لأي قضية، وبالتالي لو غاب هذا المعادل الموضوعي، سنسقط جميعاً في حالة من حالات السُعار اللاأخلاقي. هذا القول أو الاطروحة ترى أن إنكار الإله أو المقوم الميتافيزيقي سيسقط الناس بالعدمية الأخلاقية. (العدمية – NIHILISM وهي مذهب فلسفي واخلاقي يصل الى درجات عالية من الشكوكية في كل شئ حتى في وجود الذات -في بعض الأحيان- لذا يرى أن الأخلاق لامعنى لها).
قد يكون هذا الإشكال (لو صح ذلك) من أكثر الإشكالات التي تراود ذهنية المؤمنين أو هؤلاء الذين يقفون بين بين، فقد تكون عقلياتهم مقتنعة بما قدمناه بالأجزاء السابقة، ولكن هذا السؤال يبقى حاجزاً عنيفاً بينهم وبين الخطوة الفكرية الأهم في حياتهم. وقد إتفق إيمانيول كانط مع هذا الطرح إلى حدٍ ما (رغم كونه لا يرى أن إستدلاله هنا يدل بالضرورة على وجود خالق أو إله ما)، حيث رأى في كتابه )نقد العقل العملي( في الفصل الخامس منه ضرورة وجود المعامل الإلهي السماوي (Divine) كضامن لأخلاق مطلقة (Supreme) فهو يرى ضرورة أن تكون هناك قيمة أخلاقية مطلقة. فالصالحين والطيبين في هذه الحياة غالباً غير مكافئين بشكل مناسب، بل على العكس ترى أن أغلب الاثرياء وأصحاب النفوذ من الأشرار. لذا فهو يرى أن وجود إله خيِّر وعادل بشكل مطلق أمراً ضرورياً ليتم تحفيز الطيبين في هذه الحياة بشكل أكبر خصوصاً لو عرفوا أن في نهاية هذه الحياة غير العادل المليئة بالمعاناة سيكون لهم جائزة كبيرة من الإله، كذلك بوجود هذا الإله سيكون حافز لبعض الأشرار للتفكير بمدى شرورهم خصوصاً لو عرفوا أن الإله سيعاقبهم على ذلك. وعليه بحسب كانط فإن الأخلاق تحتاج إلى محفّزات.
ويرد كيري والترز على كانط في كتابه (Atheism A guide for perplexed) الفصل السادس ص 123، حيث يقول:
“Our concern here isn’t with Kant’s argument as a demonstration of God’s existence—in all fairness to Kant, he himself denied that one could “prove” God’s existence, and offered his argument only as a “practical” or prudential” one—so much as with his underlying claim that justice and happiness are possible only if God guarantees them. This contention can be challenged on several grounds, not the least of which is the simple denial that ethical aspirations are somehow inauthentic or empty in the absence of a divinely grounded proportionality between rectitude and happiness. But the more pertinent challenge in the context of this chapter is that Kant posits but leaves unexplained the relationship between the good and God. What exactly is it? This is a puzzle that Plato famously explored in his dialogue “Euthyphro,” and his analysis of it seriously undermines the theist’s claim that morality depends on God.”
الترجمة:
“إن اهتمامنا هنا ليس بحجة كانط كدليل على وجود الله – وبكل إنصاف مع كانط ، فقد نفى هو نفسه أنه يمكن للمرء أن “يثبت” وجود الله، وقدم حجته فقط على أنها “عملية” أو “حصيفة” – بقدر ما هو مع ادعائه الأساسي بأن العدل والسعادة ممكنان فقط إذا ضمنهما الله.
يمكن الطعن في هذا الخلاف على عدة أسس ، ليس أقلها الإنكار البسيط بأن التطلعات الأخلاقية غير صحيحة أو فارغة إلى حد ما في غياب التناسب الإلهي بين الاستقامة والسعادة. لكن التحدي الأكثر صلة في سياق هذا الفصل هو أن كانط يفترض العلاقة بين الخير والله ، لكنه يتركها غير مفسرة. ما هي تلك العلاقة بالضبط؟ هذا هو اللغز الذي اكتشفه أفلاطون بشكل مشهور في حواره “Euthyphro” ، وتحليله لها يقوض بشكل خطير ادعاء المؤمن بأن الأخلاق تعتمد على الله.”
دعونا نفكك هذا الكلام بعض الشئ، كيري والترز يرى مشكلتين أمام أطروحة كانط:
- إشكالية أخلاقية، حيث يرى أن وجود محفز خارجي (الله) للاخلاق محطم للأخلاق ذاتها، فهو يلغي قيمة الخير الذاتية كلياً ويجعل لها علاقة مع جهة تثيب وتعاقب. طرح كانط يشابه طرح المؤمنين بشكل كامل، ولكن من خلال هذا الطرح ألغى المؤمنون كلياً القيمة الأخلاقية، فلامعنى لمساعدة الغير إلا بقدر إرتباطها بالثواب الذي يعدهم به الرب. ولا قيمة بالاعتداء على الضعفاء الا بقدر إرتباطه بالعقاب الموعود في الحياة الأخرى. فالمؤمنون لا يستطيعون فصل القيمة الأخلاقية عن شعورهم وخوفهم من ذلك نتائج تصرفاتهم وافعالهم في الحياة الأخرى. وستتحول آلية التعامل مع الأخلاق بىلية العصا والجزرة.
- إشكالية فهم العلاقة بين الخير والاله، ,اشار إليها بمعضلة يوثيفرو، والتي تكلم عنها أفلاطون.
معضلة يوثيفرو (Euthyphro Dilemma)
ببساطة شديدة وبدون تعقيد فلسفي، ماهي قصة هذه المعضلة:
يوثيفرو كان شاباً ذو ورع وتشدد، كان ذاهباً لتبليغ السلطات عن والده في جريمة قتل. وفي الطريق إلتقى بسقراط الذي سأله عن سبب إبلاغه عن والده، فكان جواب يوثيفرو أن الداعي لذلك هي التقوى والتقرب للآلهة. فآثار سقراط تساؤلاً وهو هل أن التصرف يكون ورعاً إذا أحبته الآلهة؟ أم أن الالهة تحب هذأ التصرف لأنها تصرف ورع؟
ولنصوغ ذلك بشكل آخر وهو هل أن الالهة تحب الخير لانه خيراً؟ أم أن ما تحبه الآلهة يكون خيراً؟
هذه المعضلة يمكن توضيحها بالرسم التالي
فعلى الفرضية الأولى ترى أن الإله يعمل بصفة خبير أو داعم للأخلاق الجيدة، وبالتالي نستنتج أن الأخلاق تعمل بشكل مستقل عن الإله… (ولتسقط بذلك فرضية كانط)
أما على الفرضية الثانية فالأخلاق ستكون موجودة بشكل إعتباطي، معتمدة كلياً على آليات ال (كن فيكون) وآليات الناسخ والمنسوخ واليات العهد القديم والعهد الجديد، وسترتبط الأخلاق بشكل آيديلوجي دوغمائي متكامل مع الدين أو الشريعة، فيكون إسترقاق الناس جيداً وخيراً طالما كان في سبيل الله. وسيصبح مد يد العون للمخالفين المحتاجين إثماً يعاقب الله من يرتكبونه. وتكون سرقة الأعداء مباركة وقتلهم فضيلة.
وقد يرد البعض قائلاً من أن الله لن يأمر بفعلٍ أو تصرفٍ سئ، بالتالي يعود هؤلاء الى الفرضية الأولى فهم يفرضون الخيرية الذاتية المنفصلة عن الله.
والإشكال الاخر في هذا الفرض هو غياب المحفّز، فعند معرفة كون هذا الفعل أو التصرف مأمور به من الله وأنت تقوم به إستجابة لله، أقول عند معرفة ذلك سينعدم المحفّز ويتحول الى إلتزامات جبرية.
عليه وعلى كلا الإحتمالين تسقط نظرية كانط الأخلاقية.
ومما تقدم أقول أن القيمة الأخلاقية عند الملحدين هي قيمة شخصية وليس للعقيدة أو لانعدام العقيدة أي أرتباط بها، فقد ترى الكثير من الملحدين لايزالون متمسكين بنفس الأخلاقيات العامة التي نشأوا عليها، وقد ترى بعضهم نجح بتغيير ذاته وأخلاقياته أيضاً.
قمت بكتابة هذه السلسلة من المقالات محاولةً مني لإثارة زوايا التفكير الإنساني لبعض القراء. فأنا بشكل شخصي (وكما بينت سابقاً في هذه السلسلة) لايهمني إيمان شخص ما بخرافة معينة من عدم إيمانه، ولكن ما يهمني هو كيف ستكون العلاقة بيننا، هل ستكون مبنية على التكفير والتخوين والعداوة؟ أم أنها ستكون علاقة إنسانية قائمة على إحترام متبادل لحق الإختلاف؟ لا أمانع بصفة شخصية أن يقوم أي شخص بتحطيم وشتم والسخرية من أفكاري وآرائي ومعتقداتي بكل ما أوتي من قوة، ولكن على أن لاينسى ان العلاقة ذات طرفين لهما نفس الحقوق والواجبات، فالعكس بالعكس بمعنى أن لي أنا أيضاً الحق بتحطيم وشتم والسخرية من أفكاره ومعتقداته، فأنا أؤمن بشدة أن الإنسان (فقط) من له الحق بالإحترام، أما أفكاره ومعتقداته وآرائه فهي لاتملك ذلك الحق.
الملحدون لايختلفون كثيراً عن الآخرين، فمنهم الجيد والسئ كما هو الحال مع جميع الناس، وهم لايعيشون حياة مختلفة كثيراً عن مجتمعاتهم، فالكثير منهم لايزال يعيش حياة عادية لم يتغير الكثير معه أو معها. فنحن لانعيش حياة ماجنة، نمارس الجنس فيها مع كل شخص نراه (كما يحلو لبعض المؤمنين إتهامنا به)، رغم كون ممارسة الجنس ليست مذمة أخلاقية بالمناسبة فأنا أؤمن بحق الحرية الجنسية. بالمقابل فإن الجنس عند الإبراهيميين وصل لحالات وضيعة جداً، من نكاح الرضيعة ونكاح الميتة ونكاح البهيمة الى نكاح الأم ونكاح العمة والخالة، الى الزواج المتعدد وزواج المتعة وزواج المسيار والزواج العرفي وصولاً الى مفاخذة الصغيرة وإرضاع الكبير، حتى رجم وجلد الزاني والزانية، مروراً بإغتصاب الإماء وإمتلاك أفراجهن. الكتاب طويل والمخازي الجنسية كثيرة، وأنا أربؤ بنفسي بالإكثار والغرق في هذا الحديث الوضيع.
أما الكلام عند المؤمنيين (الشرقيين منهم خصوصاً) بأن الملحدين يدعون للإنحلال الأخلاقي فهو كلام لايعدو أن يكون كلام فاضي، ولا يأتي إلا من خائف منعزل في زوايا نفسه ولايعرف كيف يتواصل مع الآخرين إلا من خلال لغات التخوين والتفيسق والإنحلال.
تقول كاثرين هيبيرن الممثلة الأمريكية الشهيرة:
I’m an atheist, and that’s it. I believe there’s nothing we can know except that we should be kind to each other and do what we can for each other.
الترجمة:
أنا ملحدة ، وهذا كل كل مافي الأمر. أعتقد أنه لا يوجد شيء يمكننا معرفته سوى أننا لابدَّ من أن نكون لطفاء مع بعضنا البعض وأن نفعل ما في وسعنا لبعضنا البعض.
كاثرين هنا لخّصت بجملة واحدة مقال من آلالف الكلمات، فهي تقول أنها ملحدة وهذا كل مافي الأمر، الموضوع في غاية البساطة فهي تدعو لعدم جعل هذا الأمر حاجزاً إنسانياً بينها وبين أي شخص آخر. ثم تعود لتقول أنه لايوجد شئ يمككنا معرفته بشكل يقيني أكثر من كوننا بحاجة لأن نكون لطفاء مع بعضنا البعض ونساعد أحدنا الآخر، مختصرةً كل القواعد الأخلاقية بإحترام الإنسان ومساعدة الآخرين. وهو أفضل تمثيل للمذهب البراغماتي القائم على أساس المشاركة وإحترامنا لبعضنا الآخر.
في آخر هذا السلسلة من المقالات أود أن أسجل رفضي لإصطلاح (ملحد) وهو الترجمة العربية لكلمة (Atheist). فالإلحاد أولاً ليس نكراناً للآلهة، بل هو ببساطة إنعدام الإيمان بها. والإلحاد ليس منظومة دينية أو آيديلوجيا سياسية أو علمانية كما يحب أن يصورها بعض المتدينيين. الملحدون يرون ببساطة أن ما ينعدم فيه الدليل العلمي التجريبي لايعدو أن يكون خرافةً. لذا وبشكل شخصي أطلق على نفسي بأني (لاخرافي) وأرى شخصياً ان المؤمنيين بأي أطروحة غير مدعومة بالعلم هو مجموعة من (الخرافيين).