الضلع الثالث: النبوة
وهي أضعف أضلاع مثلث الإيمان الإبراهيمي، فالنبوة تعتمد كلياً على الضلعين الآخرين وخصوصاً وجود الإله الإبراهيمي (الواحد)، والذي كما بينتُ في الجزء الثاني من هذه السلسلة من أنه يستحيل إثباته بشكل علمي وعقلاني. وكون هذا الضلع بالذات هو الأضعف في مثلث الإيمان الإبراهيمي قادمٌ من أمرين:
الأول: أن النبوة مختلف عليها بشكل كبير من حيث مدعيها، ومن حيث مواصفاتهم، ومن حيث رسائلهم وتشريعاتهم.
الثاني: أن النبوة تفريع للإيمان بالإله. على عكس الإله والحياة الأبدية بعد الموت، فحتى الأديان الأخرى (الغير إبراهيمية) تتفق ببعض تفاصيل الإلوهية والحياة بعد الموت، ولكنهم يبتعدون عن مفاهيم النبوة.
كانت النبوة عند الإبراهييمن محصورة في حدود ما يسمى بالشرق الأوسط وتحديداً مثلث العراق/مصر/الجزيرة العربية، فلم يخرج أي نبي (بحسب الديانات الإبراهيمية جميعاً) من هذه الحدود إلا بهاء الله مؤسس الديانة البهائية، وكان رجلاً إيرانياً مسلماً شيعياً تحول الى الشيخية ومنها الى البابية ثم أعلن هو أن البابية تحولت الى ديانة كاملة منعزلة عن الإسلام (ولايزال البعض لايصنف البهائية على إنها ديانة أصلاً). وقد أحسن أبو بكر الرازي كما نقل عنه في مخاريق الأنبياء حين أشكل على مبدأ النبوة حيث أعتبرها لاتدل على المساواة، والا لماذا يفضل قوم دون قوم بأن يكون منهم نبياً لا من غيرهم. وقد أشكل أيضاً على مبدأ النبوة أنه لو صح ذلك لكان الإله قد فعل الفاضل وترك الأفضل وهذا يتنافى مع عظيم حكمته، وهو يرى أنه كان على الله أن يوحي برسالته للجميع بدلاً من إرسالها لمجموعة معينة من الأنبياء. فمن الأفضل مخاطبة الجميع بدل أن يخاطب واحد أو ألف دون غيرهم.
المشكلة الاخرى التي يعاني منها هذا الموضوع هو كون الأنبياء بالمطلق من الرجال، وقد لايكون هذا الموضوع بالإشكال الكبير لو أدركنا أن الأديان الإبراهيمية على الإطلاق وبشكل واضح جداً أديان ذكورية بتميز. ولكن ومع ذلك فلا يوجد أي معنى عقلاني من وجود عشرات الآلاف من الأنبياء عبر التاريخ دون وجود ولو إمرأة واحدة فيما بينهم، رغم تغني الأديان الإبراهيمية بالعديد من النساء (الصالحات).
بالإضافة لما تقدم، فالنبوة تعاني من الكثير من المشاكل الأخرى، ومنها تحديد مواصفات الأنبياء. فلطالما كان هذا الجانب محل للخلاف بين الإبراهيميين. فالنبي عند بعضهم لابد أن يكون شخصاً غير قادر على الخطأ أو بتعبير آخر أن يكون معصوماً منذ الولادة، ولدى البعض الآخر يرى أن النبي سيكون معصوماً بعد النبوة، وعند البعض الاخر فالانبياء معصومون فيما يتعلق بتبليغ الرسالة والشريعة دون غيرهما، وعند البعض الاخر، ليس للأنبياء أيّ تميز أو تمييز في هذا الجانب. ولكنهم يجمعون على أن الانبياء هو مجموعة من الأشخاص الجيدين. ولكن السؤال لكل هؤلاء كيف تثبتون عصمة شخص ما؟ فلا دليل عقلاني على ذلك. أما لو قلتم أن العصمة ليست شرطاً فكيف تثبتون صحة التبليغ؟
يعتمد الإبراهيميون في تصديق دعوى النبوة من أي شخص على إظهار المعجزات أو بتعبير آخر صناعة الخوارق الطبيعية. بمعنى أن النبي يحتاج لمعجزة خارقة للطبيعة كي ثبت للناس أنه شخص مرسل من إله قادر. وهنا تفصيل غاية في الأهمية، فحتى لو قبلنا هذا النقاش (جدلاً) فإن السؤال الآتي قد ينسف النبوة من الأساس وهو: كيف يثبت المؤمنون حصول المعجزة؟ فتاريخياً كل المعجزات أو الخوارق كانت مؤقتة ومحدودة وشهودها كانوا في أضيق الحدود. لذا فإن أغلب المؤمنين لم يشهدوا أي من المعجزات أو الخوارق التي تذكرها كتب الإبراهيميات، فالأغلب الأعم كانوا مجرد تابعين لتابعين لتابعين. ناهيك عن الأجيال التي تبعت هذه الأحداث والتي لم تر الأنبياء أصلاً.
قد يشكل المؤمن أن ذلك لا ينفي حدوث المعجز إبتداءً، وأجيب أن المعجزات لاقيمة لها إن لم تكن مشهودة من قبل الجميع وثابتة لعقولهم. فما معنى ان يسير شخص على الماء ليراه إثنان أو ثلاثة؟ وما معنى أن يقوم شخص بشق البحر أمام عشيرته (فقط)، ثم تعود تلك العشيرة لتنقلب عليه بعد كل ما رأوه؟ وما معنى أن يأتي شخص بكتاب يدعي أنه كتاب إعجازي وهو ملئ بالتناقضات والأخطاء العلمية والتاريخية والإنسانية؟ فلو أخبرني صديق أن هناك إنسان سار على الماء، لقلتُ لصديقي فوراً أنك كذّاب أو أحمق. ونفس الشئ لمن يخبرني عمن يشق البحر ويرسل الجراد والضفادع. أما من يأتيني بكتاب يدعي الإعجاز فسأقلب صفحات ذلك الكتاب، حتى أصل مثلاً إلى السماوات السبع والشهب التي ترمى على الجن وماء الرجل من بين ترائبه و (وما ملكت أيمانكم) ثم لأصل إلى (تقطع أيديهم وارجلهم من خلاف) فسأكتشف بكل سهولة أن هذا الكتاب ليس إلا مؤلَّفٌ فاشل. أما أخطاء هذا الكتاب القصصية والتاريخية فحدث ولا حرج، فقصص موسى ويوسف وعيسى وفرعون وهود الخ كل تلك القصص كانت قصصاً مليئة باللخبطة التاريخية. ناهيك عن الاخطاء العلمية من كيفية صناعة الجنين والنطفة والبيضة إلى النجوم وحركة الشمس والقمر إنتهاءً بشكل الأرض… الخ من مزحات القرآن العلمية.
بشكل شخصي أنا مستعد أن أتقبل النبوة لو جاء ذلك الشخص بالمعجزة أمام الجميع، وأن تكون معجزة ذات قيمة إنسانية، كأن يحل السلام في العالم، أو كأن ينتهي الجوع والفقر من العالم، أو كأن تحل السعادة على الجميع. سأؤمن لو حدث غداً وفي غضون 24 ساعة من الان أن يجلس أسامة بن لادن مع باراك أوباما وعلي خامنئي وملك السعودية والرئيس الروسي والصيني والكوري الشمالي ورئيس كوبا، على طاولة واحدة وأن يحل السلام فيما بينهم، وتتوقف الحروب، ويعيش الجميع بسلام. أنا مستعد للإيمان بالمعجزة لو تم حل أزمة القضية الفلسطينية برضا الأطراف جميعاً غداً وفي غضون 24 ساعة. أنا مستعد للإيمان بالمعجزة لو تم حل المجاعات وحروب اللامعنى في أفريقيا فيعيش الجميع بسلام وفي غضون 24 ساعة. أما أن تكون المعجزات على شكل كلمة الله على حبة بطاطا أو على شكل رسم الصليب في داخل حبة طماطم، أو مسير على الماء أو شوية كلام فاضي، فهذا الكلام ليس إلا مضيعة للوقت وللعقل، بل ومن المعيب جداً علينا أصلاً أن ننظر أو نستمع لهذا الهراء.
وهنا أنا أؤكد أن المؤمنين كي يثبتوا لنا النبوة والمعجزة فعليهم أن يكلمونا على قدر عقولنا، لا أن يأتوا بروايات وخرافات من كتبهم، وهم مقتنعون بها (وهذا شأنهم)، ثم ليريدوا منا الإيمان بكل ماهو مخالف للعقل وبدون أي مشاهدة وإثبات.
إضافة الى ماتقدم من الإشكالات في موضوع النبوة، تأتي مشكلة عدم الثقة المتبادلة بين الأديان والأنبياء الإبراهيميين، حيث أن أغلب الابراهيميين لايثقون ببعضهم البعض، وأنبياءهم في الغالب لايثقون بمن يليهم ولا بمن يعاصرهم من الأنبياء. فاليهود هم أول من أطلق مصطلح المسيح الدجال، ليقاوموا ظهور المسيح (على فرض وجود شخصية تدعى المسيح). ثم جاء المسيح ليقول أنه هو الله وأبنه والروح القدس في آنٍ واحد، ويقول أن من بعده سيأتي أنبياء كذبة. وبعد ذلك يأتي نبي المسلمين ليقول أن عيسى ليس سوى نبي، وأنه هو (محمد) خاتم الأنبياء. ثم ليأتي بعد ذلك بهاء الله ليقول أن الانبياء يأتون على بعد ألف سنة بين النبي والاخر وأن كل من يدعي النبوة قبل ذلك ليس بنبي. بل أن أغلبهم لم يتقبل فكرة وجود نبي آخر في نفس زمانه، كمحمد نبي المسلمين ومسلمة بن حبيب. حتى وصل الأمر الى قتل مسلمة من قبل المسلمين، وقتل المسيح بوشاية من قبل اليهود، وتعذيب وسجن بهاء الله من قبل المسلمين. والحروب الدينية العبثية عبر التاريخ شاهدة على ما تقدم.
الإختلافات بين الأديان الإبراهيمية عقائدياً وتشريعياً وأخلاقياً هي إختلافات جذرية (كفرية)، فبين من يجيز زواج الأطفال حتى الرضيعة، وبين من يعطي صكوك الغفران، وبين من يقول أنهم شعب الله المختار، وبين من يتصور أن نبيه تبع وليّه. ألإبراهيميون كانوا الأسوء تأريخياً، فرغم إنتمائهم الى تاريخ وقواعد مشتركة كثيرة تراهم الأكثر إجراماً بين بعضهم البعض أو مع الآخرين بشكل عام. فاليهود ساهموا بقتل المسيح (على فرض وجود المسيح)، والمسيحيون والمسلمون خاضوا حروباً عديدة وطويلة ودامية فيما بينهم. ومجازر المسيحيين والمسلمين ضد اليهود ماثلة إلى يومنا هذا. ولايزال المسلمون يعرضون البهائيين الى أشد أنواع العذاب والتنكيل حتى يومنا هذا. وقد يرد بعض المسيحيين بالقول أن المسيح لم يكن عنيفاً أو محارباً ويشددون على الفرق بين العهد الجديد والقديم، وللرد عليهم أقول أولاً لايمكننا فصل العهد القديم عن العهد الجديد، فالمسيح نفسه قد قال (لاتظنوا أني جئتُ لأُنقض الناموس. ما جئتُ لأُنقض بل لأُكمل) مت 5:17. وبأعتبار أن المسيح هو هو الإله فكيف يرد ذلك الإله على كل العنف في الجزء الأول من حياته؟ فالمسيحيون لايؤمنون بالنسخ كما في الإسلام. يضاف الى ذلك بعض الآيات في العهد الجديد التي بينت أنه لم يأتِ ليلقي سلاماً بل ليلقِ سيفاً، واخرى تبين أعتداءه على الباعة اليهود داخل الهيكل في حادثة تطهير الهيكل، ولكن العنف والحروب الكبرى لاتحدث الا بوجود السلطة، والمسيح لم يصل الى هذا المستوى في حياته، حتى تبنى قسطنطين الأول المسيحية لتحصل المسيحية على أول تقدم وفرصة فعلية نحو السلطة، وليبدأ بعدها التحول الكبير في التاريخ المسيحي. أما البهائية فهي لاتزال ديانة حديثة لم تحصل بعد على الفرص الكافية. ولكن الجميع تحت سقف واحد، حينما يكونون مستضعفين فهم يدعون الى العدل والإحسان (رغم كذبهم في ذلك) وما أن يتمكنوا من مسك زمام الأمور حتى تظهر أنيابهم بكل مافيها من سموم وشرور، فالسلطة الثيوقراطية ليست إلا مؤسسة للفساد والعنف المبرر المقدس. والتاريخ شاهدٌ على ما أقول، فالأديان الإبراهيمية لاتعدو أن تكون أسوء منتج بشري عبر التاريخ.