إن تشخيص المشكلة هو الخطوة الأولى نحو إيجاد العلاج لها، والقضية الأساسية التي تعاني منها شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي حالة الشلل الفكري والعقلي التي تجتاح المنطقة منذ قرون. وبغض النظر عن مستوى تعليم الفرد أو تطوره الثقافي، فإنه غالبًا ما تجده يعاني من حالة من الضعف الشديد وعدم الأهمية، وقد اختزل وجوده إلى مجرد امتثال للتقاليد والعقيدة الدينية قبل كل شيء. لقد نجحت الأديان وخصوصاً الاسلام في تحطيم الفكر والإنسانية معًا، تاركةً وراءها مشهدًا من الخراب الفكري والانحلال الأخلاقي. إنه مشهد يتم فيه قمع التفكير النقدي، ويقابل التساؤل بالعداء، حيث يتم الإشادة بالالتزام الأعمى بالمعتقدات القديمة قبل كل شيء. وفي مثل هذه البيئة الخانقة، يُخنق الابتكار، ويتوقف التقدم، وتُزرع بذور الركود في أعماق نسيج المجتمع. إنها دورة من الإفقار الفكري تديم نفسها عبر الأجيال، فتوقع الأفراد في فخ شبكة من الجهل والخضوع لأيديولوجيات عفا عليها الزمن. وإلى أن يتم كسر هذه الحلقة، وإلى أن تتحرر العقول من أغلال العقيدة والتقاليد، سيظل التقدم الحقيقي والتنوير أحلاما بعيدة المنال، وبعيدة عن متناول شعوب المنطقة إلى الأبد.
وتمتلئ رفوف المكتبات العامة والخاصة بغزارة الأعمال الإنسانية، خاصة التنويرية منها. لقد رقصت أقلام لا تعد ولا تحصى على الرق، ونسجت منسوجات معقدة من الفكر والعقل، مما أدى إلى إثراء المشهد الفكري لجنسنا البشري. ومع ذلك، وسط هذا المحيط الواسع من الخطاب المكتوب، والذي أتجنب المهمة الشاقة المتمثلة في تحديد الأسماء وتعداد منشورات هؤلاء الشخصيات الفكرية البارزة ضمن حدود هذه المقالة الموجزة. ومع ذلك، دعونا نتوقف، ولو للحظات، لتشريح العبارة المستفزة التي تقول: “ما ينجزه سياسي واحد، لا يستطيع آلاف الفلاسفة تحقيقه”… هذا الإعلان الجريء بمثابة إدانة صارخة للفعالية المزعومة للتأملات الفلسفية في إحداث تغيير ملموس. فهو يلمح إلى أنه في حين تنخرط جحافل من الفلاسفة في التأمل النبيل والخطاب الفكري، فإن مساهماتهم تتضاءل مقارنة بالإنجازات العملية لرجال الدولة الأذكياء والقادة السياسيين. في الواقع، يتحدى هذا التأكيد جوهر المسعى الفلسفي، مما يشير إلى أن عالم الأفكار، على الرغم من تحفيزه فكريًا، يظل عاجزًا في مواجهة تحديات العالم الحقيقي في كثيرٍ من الاحيان. لذا، بينما نبحر في سجلات التاريخ، فإننا نواجه شخصيات بارزة مثل أبراهام لنكولن، الذي أعادت فطنته السياسية وعزيمته التي لا تتزعزع تشكيل مسار الأمم، أو نيلسون مانديلا، الذي تجاوزت روحه التي لا تقهر ووضوحه الأخلاقي حدود الفلسفة لإحداث تغيير مجتمعي عميق. وغاندي وغيرهم الكثير. وبالمقارنة، فإن مساهمات العديد من الفلاسفة، على الرغم من أنها محفزة فكريًا، تتضاءل مقارنة بالتأثير الملموس الذي أحدثه هؤلاء العمالقة السياسيون. وهكذا، فإننا مضطرون إلى مواجهة الواقع المزعج المتمثل في أن التجريدات السامية للفلسفة غالبًا ما تفشل في ترجمتها إلى عمل ملموس على أرض الواقع.
إننا نقف أمام خصم هائل، خصم أثبت أنّ عدم فاعلية خطاب التنوير المجرد، في ظلِّ غياب العمل المصاحب في العالم الحقيقي والإنجاز الاجتماعي الشامل. يجب على أبطالنا أن يتجاوزوا عالم البطولات النظرية والشجاعة الافتراضية، وأن يركزوا بدلاً من ذلك نحو العمل الميداني المنظم. لقد نجح خصومنا على وجه التحديد لأنهم يدركون أهمية التنظيم الذاتي منذ البداية. في هذه الأثناء، ما زلنا نبحث عن أبطال يكتفون بالتبجح اللفظي، أبطال تقتصر مآثرهم على عالم “إزدراء الاديان”. أما العمل السياسي والاجتماعي الميداني الحقيقي والمؤثر والمنظم، فهو يبقى خارج نطاق تفكيرهم. فمعظمهم غير مستعدين على الإطلاق للمشاركة في جهود منسقة ترتكز على تقييم واقعي وموضوعي للوضع. ولا يزالون عالقين في أحلام البطولات الافتراضية والإعجابات الرقمية، مما يترك الأرض مهيأة لنفس الخصم الذي ابتلينا به لقرون. وفي آخر مطافهم سيموتون وستقام مراسم التأبين في إحدى أركان نفس الجوامع التي كانت تقوم بتكفيرهم.
ولكننا هنا في مؤسسة العقل الحر نمد أيدينا إلى كل هؤلاء الأبطال وإلى كل عقل شجاع. نحن لسنا مجرد مؤسسة إعلامية علمانية؛ بل إن مشروع العقل الحر هو مشروع شامل إلامي إنساني إجتماعي وفكري. وإن شئت أن تختصر ذلك كله فيمكنك أن تقول نعم هو مشروع علماني سياسي إجتماعي صادم ومستقل… ينطق مصرياً بدماءٍ عراقية، ويشعر سورياً، ويعشق أمازيغياً، ويفكر سودانياً.
في هذه اللحظة المحورية، عقدنا العزم على تحويل ساحة المعركة من الحدود المجردة للكلمات المكتوبة والعوالم الافتراضية إلى الساحات الملموسة للمشاركة المدنية والعمل الجماعي في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا. ولم يعد بوسعنا أن نتحمل ترف البطولة التي ظلت خاملة، محصورة في صفحات البيانات وأصداء المنتديات على الإنترنت. إن جوهر مُثُلنا الإنسانية ذاته يقع تحت الحصار، ويتعرض لاعتداءات لا هوادة فيها، حتى من قِبَل أولئك الذين يشيد بهم البعض عن طريق الخطأ كأبطال.
وبينما يشهد المشهد العالمي تحولات زلزالية وتحولات مضطربة، لا يوجد مكان للمشاهدة السلبية. إن المخاطر كبيرة للغاية، والتحديات هائلة بحيث لا يمكن مواجهتها بمجرد خطابات بلاغية وإيماءات رمزية. لقد حان وقت العمل والمقاومة الملموسة ضد القوى التي تسعى إلى تقويض إنسانيتنا والدوس على قيمنا.
ولا يكفي إعلان الولاء للمثل العليا أو التشدق بالقضايا النبيلة. بل إن الامر يتطلب التضامن الحقيقي المشاركة الفعالة، والرغبة في الوقوف جنبا إلى جنب. لا يمكننا أن نتوقع من الآخرين أن ينضموا إلى قضيتنا إذا لم نكن نحن أنفسنا على استعداد لاتخاذ موقف لما نؤمن به.
في بوتقة التاريخ، عندما تشتعل نيران الظلم دون رادع، وتهب رياح القمع بلا هوادة، لا يمكن أن يكون هناك حياد ولا حل وسط. يجب على كل واحد منا أن يختار أين يقف، سواء كنا سنُحسب في صفوف الشجعان أو سنُوضع في سجلات اللامبالاة.
لقد ولى زمن التردد. وقت العمل هو الآن. فلنطرح أغلال الرضا عن النفس جانبًا وننهض لمواجهة تحديات عصرنا بشجاعة واقتناع. معًا، متحدين في الهدف والتصميم، يمكننا صياغة مستقبل أكثر إشراقًا لأنفسنا وللأجيال التي لم تولد بعد.
خطابات ومقالات وكتابات لا تتوقف، مؤسسون وأقطاب وأنبياء وائمة جدد، لا يعلمون ما يفعلون سوى طلب الانقاذ ونعي الواقع. نعاة الواقع هؤلاء لا يجيدون سوى ذلك… ولن يأخذوا أي كلمةٍ من بطولاتهم الورقية إلى أرض الواقع… يشكون الشتات وهم متخصصون به. يسبّون بعضهم البعض بأقسى الشتائم، وحين يبدأ رصيد اللايكات يقل يتحولون الى أصدقاء وحلفاء من جديد. إنتهت مرحلة الكتابة والقراءة العمياء، فالكل مطالب بالانجاز. ولن يرحمنا أبناؤنا إن تركنا لهم مستقبلاً متجهماً لا معالم فيه.
أساتذتنا وأصدقائنا الكرام… قلوبنا وعقولنا مفتوحة لكم، فمدوا أياديكم معنا هنا لننطلق سويةً الى المرحلة التالية… مرحلة العمل الجاد على الارض… فقد شبعنا تنظيراً… أوطاننا بحاجة إلى خمسة وعشرين يناير جديدة، منضبطة ومنسقة، لتسقط عروش الجهل المقدس الموروث منذ مئاتٍ بل آلافٍ من السنين.
في ظل هذا العالم المتأرجح نعم نحن بحاجة الى ثورة واحدة، ولن يقود هذه الثورة أبطالٌ مع وقف التنفيذ…بل سيقودها أبطال الميدان الذين إفترشت خدودهم إسفلت الفقراء والمشردين… وأنتشرت أجسادهم على أرض الوطن فإلتهبت عقولهم بحبه وعشقه. نحن بحاجة الى فتيات يخلعن ثياب الجهل مؤمنات بحريتهن المطلقة يصفعن كل عقلٍ نام ونسي الحياة، يخبرون العالم بأسره أن ليس كل فتاتٍ نطقت العربية تعيش في عصر المماليك.