زلطة باب الخلق

زلطة باب الخلق

 

من التراث العريق والتاريخ العميق، من ذلك المكان الذي مرَ عليه الملوك والسلاطين، ضم بين طياته كل بسيط وعميق، عندما تخطو فيه كأنك ترى مصر كلها، من باب الخلق جاء محفوظ زلطة ليقدم لنا صورة رائعة لملامح اشخاص قد نراهم او نسمع عنهم في كل يوم.

صورة من ضاق به وطنه ولم يكن امامه الا البحث عن مكان آخر يستطيع فيه ان يؤمّن العيش له لا الغنى،  وقع في فخ من يتاجر باحتياجات البشر فمنهم من سرق ماله تحت عنوان شركات التوظيف ومنهم من سرق حياته ليحقق غاياته السياسية، فدفع به الى مكان علم عن خباياه الكثير ولم يخبر محفوظ عنه سوى ما سوف يدفعه الى الرحيل، وعند اول لحظات الوصول ادرك محفوظ انه قد وضع اول خطواته على طريق المجهول بعد ان اقتاده مجموعة من المسلحين الى مكان عمله الجديد ليصبح رغما عنه مدرسا للغة العربية لاناس اجتمعوا تحت خيمة ما يسمى بالجهاد فاطلقوا على انفسهم مجاهدين.

 

من عبق التاريخ وروح التراث الخالد، من ذلك الزمان الذي شهد عبور الملوك والسلاطين، ومن ذلك المكان الذي احتضن بين جدرانه قصصًا تنبض بالحياة، حكايات تجمع بين البساطة والعمق، تلك الأرض التي تحكي في كل زاوية منها قصة عن مصر العظيمة. من باب الخلق، تلك البوابة التي لطالما كانت شاهدة على تاريخ مصر الحافل، جاء محفوظ زلطة ليقدم لنا لوحة فنية رائعة، صورة حيّة لوجوه قد نلتقي بها يوميًا أو تصلنا أخبارها عبر الأزمان.

 

يروي لنا محفوظ قصة الفرد الذي ضاقت به أرضه، ولم يجد أمامه سبيلاً للعيش إلا البحث عن ملاذ آخر، مكان يمكنه فيه تأمين قوت يومه ليس حتى الترف والغنى. ولكن سرعان ما وجد نفسه ضحية لتجار الأمل الزائفين، منهم من احتال عليه باسم شركات التوظيف الوهمية، ومنهم من سرق حياته لتحقيق أهدافهم السياسية الخبيثة، مما دفعه إلى زوايا العالم المظلمة التي علم عنها الكثير ولكنه لم يخبر بها إلا ما كان يكفي لدفعه نحو الهروج.

 

في أولى لحظات وصوله، أدرك محفوظ أنه قد خطا خطوته الأولى نحو المجهول، بعد أن اقتادته مجموعة من المسلحين إلى مكان عمله الجديد. وهناك، وجد نفسه مدرسًا للغة العربية، ليس بإرادته، بل كجزء من مخطط أكبر في بيئة أقرب إلى معسكرات التدريب منها إلى الفصول الدراسية العادية. كان يقف أمام أفراد تجمعوا تحت راية ما يطلقون عليها “الجهاد”، مدعين لأنفسهم لقب “المجاهدين”.

 

تلك الرحلة المليئة بالتحديات والمصاعب، التي عاشها محفوظ زلطة، تروي لنا قصة عن البحث عن الهوية والانتماء في عالم يسوده الفوضى والصراع. تعكس تجربته الشخصية، بكل ما فيها من ألم وأمل، الواقع الذي يعيشه الكثيرون في بقاع مختلفة من العالم، ممن يجدون أنفسهم مجبرين على مواجهة قسوة الحياة، والبحث عن معنى لوجودهم في ظروف لا يمكن تصورها.

 

محفوظ، الذي وجد نفسه محاصرًا في واقع لم يختره، كان يناضل دون كلل في سعيه للهروب من هذا المصير المظلم. وكلن وعلى الرغم من محاولاته المستميتة للنجاة، كان الفشل يتربص به في كل خطوة، وكأن القدر قد خط في كتابه سطورًا لا تُمحى.

في ذات يوم مليء بالتوترات والأحداث المتسارعة، وقع زعيم المجموعة التي أجبر محفوظ على الانضمام إليها في حادث تفجير مروع كان من الممكن أن ينهي حياته لولا تدخل محفوظ الشجاع. زلطة، مدافعًا عن إنسانيته أكثر من أي شيء آخر، تجاوز رؤيته للرجل كمجرم لينقذ حياة إنسان في خطر.

 

إنقاذه للزعيم أدى إلى تغيير مسار حياته بشكل جذري. الزعيم، وفي لفتة للتكريم والامتنان، منح محفوظ لقب “الأمير” ، وهو تكريم لم يكن محفوظ يطمح إليه أو يتوقعه. بالإضافة إلى ذلك، تم تزويجه من ابنة الزعيم، وهو ما جعله يصبح أبًا لطفلين، مما زاد من تعقيد وضعه وتشابكه مع هذا الواقع الجديد.

 

الحياة داخل هذا النظام المغلق، حيث يعتبر الزعيم نفسه بمثابة إله يتحكم في مصائر الأشخاص، جعلت من الصعب على محفوظ الشعور بأن لديه أي سيطرة أو خيار في حياته. الواقع المرير الذي وجد محفوظ نفسه غارقًا فيه هو أن الحرية، وحتى الحياة نفسها، لم تكن سوى هبات يمكن أن يمنحها الزعيم أو يسلبها في أي لحظة.

 

وعندما يأتي الوقت الذي يقرر فيه الزعيم أن محفوظ يجب أن يضحي بحياته من أجل مهمة انتحارية، يصبح واضحًا أن الخيارات المتاحة أمامه محدودة للغاية. هذا الواقع القاسي يعكس معضلة مريرة حيث يتقلص مسار الحرية إلى خيار واحد قاتم، إما الامتثال للأمر النهائي أو مواجهة عواقب قد تكون أشد قسوة.

 

تحولت حياة محفوظ زلطة إلى رحلة معاناة متزايدة الثقل، حيث تغيرت أولوياته من البحث عن الخلاص الشخصي إلى القلق العميق بشأن سلامة ومستقبل أطفاله. بات يشعر بثقل العبء، غير قادر على تحمل فكرة الوقوف مكتوف الأيدي وهو يرى مستقبلهم يتلاشى أمام عينيه. ضاقت به السبل إلى حدٍ بعيد، ما دفعه إلى البوح بأحزانه وخططه للهروب إلى ابنه الأكبر، آملاً في إيجاد مخرج. لكن الزمن لم يكن في صالحه، فقد اكتشف بألم شديد أن ابنه قد سار على خطى جده في طريق التطرف، حتى أصبح لا يفرق بين دم أبيه والماء.

 

وهكذا، وجد محفوظ نفسه أمام مفترق طرق حاسم، حيث يتعين عليه إما أن يدمر ذاته في محاولة يائسة لأذية الأبرياء في عملية انتحارية فرضها عليه التنظيم، أو أن يجد طريقة للفرار بصحبة ابنه الأصغر. لم يكن قراره مدفوعاً فقط بالرغبة في البقاء على قيد الحياة أو حبه لابنه، بل كان محفوفاً بالعزم الشديد على حماية حياة الآخرين. بقلب شجاع وإرادة صلبة، تمكن محفوظ من تحقيق معجزة الهروب والعودة إلى أحضان مصر، إلى باب الخلق الذي طالما اشتاق إليه. لكن فرحته بالعودة لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما اكتشف أن هناك من يتعقب خطاه، مصممين على إنهاء حياته. وبعد صراع طويل ومرير داخل مصر يضطر زلطة هذه المرة للإبحار مجدداً في بحر الغربة، متجهاً إلى أراضٍ بعيدة في اوروبا هذه المرة. لكنه واجه هناك حقيقة غاية في الألم؛ ذلك أن الماضي الذي فرّ منه في افغانستان وفي مصر كان يلاحقه حتى في ملاذه الجديد، ولكنّه هذه المرة يكتشف أن من يطاره إبنه الأكبر لاغيره.

 

في هذه الرحلة المليئة بالتحديات والمخاطر، قدم محفوظ زلطة للعالم نموذجاً للصراع الإنساني في وجه الإرهاب والتطرف، موضحاً مصير أولئك الذين يجدون أنفسهم محاصرين في هذا الدوامة الخطيرة. لقد كانت قصته شهادة حية على الألم والأمل، والخسارة والنجاة، مسلطة الضوء على قوة الإرادة الإنسانية في مواجهة أشد التحديات.

 

وعود على بدء، يقدم لنا محفوظ زلطة تحليلاً دقيقًا لدوافع الهجرة وما يقود الإنسان إلى اتخاذ قرار الرحيل الأليم. يبدأ السرد بتصوير حالة الضيق والأسى التي تنتاب الفرد عندما يجد وطنه قد ضاق به، وكيف أن البحث عن لقمة العيش يتحول إلى معاناة يومية مستمرة، دافعًا الإنسان إلى حمل آلامه وجروحه، آملاً في العثور على فرصة للحياة في أرض غريبة. يُظهر محفوظ زلطة، من خلال تجربته الشخصية، كيف أن الإنسان قد يُجبر على رمي مرساة الأمل في أول ميناء يصادفه، محاولًا بذلك اختبار حظه بعيدًا عن وطنه.

 

عندما يتعلق الأمر بالبحث عن حلول للمشاكل العميقة التي تعصف بالوطن، يُقدم زلطة تصريحًا جريئًا يقول فيه: “البلد دي محتاجة قنبلة”. هذا التصريح ليس دعوة للعنف بقدر ما هو تعبير عن اليأس العميق والحاجة الماسة إلى تغيير جذري يوقظ البلاد من سباتها. يُشير زلطة إلى أن البلاد التي تظل غافلة عن جراح أبنائها بحاجة إلى صدمة قوية تُفيقها من غفلتها.

 

لم تقتصر معاناة محفوظ زلطة على تحديات التطرف الديني فحسب، بل واجه أيضًا تحديات مستمرة مع الحكومة التي ظلت تطارده في كل مكان، لم تمنحه فرصة لبناء حياة جديدة، وظل نموذجًا للمعاناة في يد نظام يلاحقه بلا هوادة.

 

في وطنه، يواصل محفوظ زلطة إرسال رسائله إلى الجميع، مؤكدًا أن الزمن لم يغير شيئًا من واقع البلاد على الرغم من مرور السنين. وأمام هذا الواقع المستمر، لم يجد زلطة أمامه سوى اللجوء إلى الحل الثوري، داعيًا إلى إعادة تأهيل البلاد بشكل شامل وجذري. وهكذا، يقدم لنا محمود عبد العزيز، من خلال شخصية محفوظ زلطة، رؤية نقدية لواقع معاصر يحتاج إلى تغيير جذري وشامل لإعادة بناء الوطن ومستقبل أبنائه.